هدايات النملة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم
تأمل وأمعن النظر في موقف النملة الداعية وخذ منها هذه الهدايات في هذه الآيات الكريمة من سورة النمل؛ بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِـحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِـحِينَ} [النمل: 17 - 19].
ومن هذه الآيات الكريمة نستنبط الهدايات التالية
1 ـ أن هذه النملة مفردة، وقد ذكرها الله في كتابه بصيغة التنكير؛ فهي نكرة في قومها كما هو ظاهر الآية؛ فليست ملكة أو وزيرة بل هي نملة من عوام النمل.فالكل إذن يجب أن يحمل هم الدعوة بغض النظر عن مركزه ومكانته في المجتمع
2 ـ هذه النملة أتت إلى قومها صارخة فيهم منذرة، قائلة: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، فأخبرتهم بقرب وقوع خطر سيحيق بهم ويقضي عليهم وهم لا يعلمون.
3 ـ أن النملة لم تكتف بالإنذار بأن هناك خطراً سيداهم عشيرتها ثم تصمت كما هو حال بعض المسلمين اليوم يعي ويعرف أن عدوه سيأتيه فلا يكون حاله إلا أن يصيح قائلاً: (احذروا الكفار؛ احذروا الفساق ، لقد انتشرت المنكرات .....إلخ)، ثم يرجع إلى فراشه ويغط في نوم عميق دون أي عمل يدفع به كيد الكفار.
إن هذه النملة لم تتقن فن الكلام فحسب، بل وضعت خطة لقومها، فقالت: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} ورأت أن المصلحة في كيفية درء المفسدة عن قومها بتبيين طريق النجاة لهم حتى لا يضلوا فيقعوا في شباك الصيد، وتحت وطأة أقدام الجيش القادم.
4 ـ والمعتبر بحال النملة يجد أن عندها نسيج الولاء لقومها، ومحبتهم كما تحب نفسها؛ فليست أنانية، بل تحب الخير لقومها، ولذا أنذرتهم جميعاً ولم تقل: (دعهم يهلكوا وهذا جزاؤهم؛ لأنهم لم يهتموا بحراسة أنفسهم) كلاَّ؛ بل أنذرتهم جميعاً، ولم تستثن أحداً.
5 ـ ومن الفوائد أن هذه النملة لم تنتظر أن يأتي أحد من قومها أو ممن يحرس وادي النمل ذاك، ويخبر النمل بأنه سيأتي جيش يحطمنا ويبيدنا، بل كانت عندها روح المبادرة الذاتية، في المسارعة إلى إنقاذ قومها وإقصائهم عن مواطن الهلاك.
6 ـ عند قوله ـ - تعالى - ـ: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وقفة قصيرة مع هذا الاعتذار العجيب من هذه النملة الذكية؛ حيث ذكرت أن جند سليمان - عليه السلام - القادم قد يهلك النمــل، وهـم لا يشعرون بأن تحت أقدامهم وادياً من أودية النمل؛ فهذا الجيش لا يتعمد قتلنا، ولا يريد تحطيمنا عن قصد.
فتأمل هذا التحذير ثم الاعتــذار؛ فالنملة تعلم أن ســليمان ـ - عليه السلام - ـ نبي رحيم، لا يحب الشر للخلق أو يضمره لهم؛ فلنتأسَّ بها في اعتذارنا لمن أخطأ في حقنا وهو لا يقصد سواء بقول أو بفعل، أو لم يشعر بخطئه ذاك.
7 ـ وبالنسبة لتبسم سليمان ـ - عليه السلام - ـ فإما أنه تبسُّمٌ منه لهذه النملة العجيبة التي خافت على قومها وأنذرتهم بخطر قد يداهمهم، وإما لاعتذارها لجند سليمان بالثناء؛ فإن قولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وصف لهم بالتقوى والتحفظ عن مضرة الحيوان، وإما أنه تبسم لإدراكه ما قالت تلك النملة وهي نعمة من الله ـ - عز وجل - ـ أنعم بها على سليمان ـ - عليه السلام - ـ وهي معرفته للغة الحيوان وفهمه لكلامه، ولذلك أعقب سليمان ـ - عليه السلام - ـ ذلك التبسم بشكر نعمة الله عليه، ومعرفة لحقه. (وما ذكرته للمراد بهذا التبسم فهو مجموع لتفسير أهل العلم لحقيقة ذلك التبسم؛ والله أعلم).
فانظر ـ أيها الأخ ـ إلى هذا الموقف ودقق النظر فيه لعلنا أن نتأسى به ونعتبر، ونعلم أن على الفرد مسؤولية يجب القيام بها، وأنه يستطيع أن يقود أمة كاملة بحسن تصرف وجميل تعبير.
ولو خرج المتأمل لهذه القصة بفائدة صحبة معلمي الخير لقومهم والمصلحين لأمتهم والابتعاد عن رفقاء السوء، ومتربصي الشر والفتن لخرج بفائدة لا ينساها طوال حياته،
وأخيراً تأمل هذه الكلمة القيّمة لابن القيّم ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى "{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }التوبة122 وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو لأن تبليغ السهام إلى نحور العدو يفعله كثير من الناس وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه " التفسير القيم لابن القيم ص431