هاهو رمضان قد بداء من جديد..وهاهو داعي الرحمن قد نادي (ياباغي الخير أقبل..ويا باغي الشر أقصر)..والناس في غفلتهم يتعجبون: ما أسرع ماجاء!.. وسرعان ما سيتعجبون أيضاً: ما أسرع ما انقضى!..
الناس في زماننا لا ينتبهون عادة لشهور الله إلا ورمضان يدقُّ على أبوابهم..فشأنهم مع أشهر العام الهجري، هو شأن ....!..وقد كان السلف ينتظرون رمضان منذ رمضان..فإذا أقبل رجب شهر الله ازدادوا استعداداً..وإذا أقبل شعبان جعلوه عتبة لرمضان..وأما حالهم في رمضان فذلك شأن آخر.
تلك قضيتنا مع الزمن..غفلة مطلقة..غفلة عن مسيره وهو يقطع بنا فيافي أعمارنا..فينطوي العام دون أن ندري..ولكن مشكلتنا الكبرى أن حضارة الغرب ساقتنا في زمن ليس زمننا..أعوام ليست أعوامنا..وأشهر ليست أشهرنا..فالصبي في سنواته الأولى من الدراسة يحسب يسرد لك أشهر العام سرداً: يناير، فبراير، مارس، أبريل...ديسمبر، ويجيبك على الفور حين تسأله عن تاريخ ميلاده 2000م!..ولكنك أنت نفسك تتلعثم حين يسألك أحدهم عن تاريخ اليوم في التقويم الهجري!.. فتلتفت إلى المفكرة باحثاً عن التاريخ..وفي أحسن الأحوال أنت تعلم في أي شهر أنت من أشهر العام الهجري، ولكن الكثيرين لا يعرفون..بل ويتلعثمون كالطالب المهمل إذا سألتهم عن ترتيب الأشهر الهجرية..ولن ينجح إلا القليل حين تطلب منهم أن يسردوا الأشهر الحرم!.
إنها واحدة من المشاكل التي تتسبب في غفلتنا عن الزمن واعتنائنا به، فنحن نحسب أعمارنا خطأ..فعدة الشهور عند الله (اثنا عشر شهراً في كتاب يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم)..والشهر عند الله تسع وعشرون فإن غمَّ علينا فهو ثلاثون!..وهذا هو فرق العدّة بين أشهر الله وبين أشهر الرومان التي نحسب بها أعمارنا. فعدة أيام الشهر في أشهر الرومان ثلاثون و واحد وثلاثون.فانظر إلى فرق الأعوام الخطأ في أعمارنا.
والمشكلة الثانية هي أننا حين نحسب الزمان بغير تقويم الله تعالى، فإننا نغفل بالضرورة عن مواسم الخير.حيث (إن لله في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها)..وتلك هدايا من الله تضاعف في بركة الأيام والعمر، فنحن نضيعها سدىً..إلا حين يذكرنا بها الذاكرون.
ولهذا لا تستغرب أيها الفاضل حين تجد أكثر الناس عن الاستعداد لرمضان غافلين..حتى إذا أعلنته لهم مجالس الافتاء، انتبهوا..وهذا هو نفسه الذي يجعلهم يدخلونه وقلوبهم خالية منه..فهم لم يعدوا أنفسهم لاغنتام نفحاته..بل كل أكثر ما يشغلهم هو كيف يقتلون نهاره..ويقضون على ليله أكلاً وشرباً، لهواً على شاشات التلفاز!.
فطائفة من الناس في رمضان – مع كونهم صائمين- يأكلون أكثر ما يأكلون في أشهر الله الأخرى..وينامون أكثر ما ينامون في أشهر الله الأخرى..ويسحقون الوقت سحقاً كأن لهم معه ثأر أدركوه في رمضان.. فإذا انقضى رمضان حمدوا الله على انصرامه، وجعلوه نسياً منسياً.
وطائفة ينتبهون في رمضان، فيجتهدون فيه ماشاء الله لهم الاجتهاد..فيصومون، ويقرأون القرآن حال صيامهم، فإذا أفطروا سعوا إلى المساجد يطلبون القيام بالجزء من القرآن أو قريباً منه، ومنهم من يحيي ليله تهجداً..ولكنهم ما ينقضي رمضان، وتمضي ست شوال حتى يعودوا إلى سابق عدهم من الغفلة..حتى يفاجئهم رمضان المقبل إن كان في أعمارهم بقية.
القليل القليل من عباد الله، من جعل همه تتبع أيام الله ونفحاته، فهو من نفحة إلى نفحة، ومن منحة إلى منحة، حتى إذا جاء رمضان كان أدرك الكنز فعبَّ منه ما شاء الله له أن يعب..ذلك الفضل من الله يؤتيه من يشاء