نحو تجديد منظورنا الأخلاقي
المتأمل في الخطاب القرآني يلحظ أن قضية بناء المنهج، وقضية بناء المعمار الفكري للإنسان المسلم قضية أساسية، يتجلى ذلك في أن القرآن والسنة النبوية - من حيث أنها مبينة وشارحة له - قد عنيا ببناء الكليات، فركزا على بناء العقيدة قبل أن يتجها إلى تنزيل الأحكام التفصيلية للشريعة المفصلة، وفي هذه الأحكام نبها إلى المقاصد الكبرى، وجعلا الأحكام التفصيلية المفصلة معللة لإثارة الانتباه إلى الكليات والمقاصد الكبرى للدين.
وفي مجال الأخلاق نبها إلى مكارم الأخلاق وأصولها، وأثارا الانتباه إلى اشتقاق كثير من فروع الأخلاق من تلك الأصول الكلية، كما نبها على أن الإيمان شعب مرتبه من حيث الأولوية من الأدنى إلى الأعلى.
وهذا التنبيه إلى الأولويات ومراتب الأعمال هو الذي استنبط منه الفقهاء الأحكام الفقهية المعروفة، التي تتدرج من الوجوب إلى الندب والاستحباب إلى الإباحة ثم الكراهة والتحريم، وفي الواجبات استنبطوا منه التمييز بين واجبات فردية عينية، وأخرى كفائية، وفي الواجبات بين واجبات وقتية، أو واجبات على الفور، وواجبات على الاسترخاء إلى غير ذلك من التفصيلات التي ليس المجال هنا مجال تفصيل فيها. وهو ما استنبط منه بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين المعاصرين ما اصطلح عليه اليوم بفقه الأولويات.
غير أن الفقه الإسلامي -إن كان أقرب العلوم الإسلامية إلى المصدرين الأولين الأساسين للشريعة: أي القرآن والسنة- لم يكن دوما في تعامله مع هذين المصدرين محكوما بمنطقهما الداخلي (كلياتهما ومقاصدهما)، بل وجدنا أنه -ومن خلال تفاعله مع معطيات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية- كان يمتص أحيانا جانبا من جوانب الثقافة الاجتماعية. وإذا كان هذا الامتصاص يتم أحيانا بطريقة إيجابية وواعية من خلال اعتبار المصلحة المرسلة والعرف، فإنه كان يتم أحيانا أخرى بطريقة سلبية خاصة حين غلب التقليد وتعطلت ملكة الاجتهاد في العصور المتأخرة.